إن الذي يدرس نظام الإرث في القرآن الكريم ويقارنه مع ما ورد في التوراة وكذلك في الأنظمة الوضعية يتأكد له أن هذا النظام لا يمكن أن يكون من وضع البشر وخاصة أنه جاء عن طريق رجل أمي عاش في وسط أمة أمية. هذا بالإضافة إلى أن التوراة والإنجيل والتي طالما تشدق بعض أتباعهما بأن محمد صلى الله عليه وسلم قد أخذ محتويات القرآن الكريم منهما يخلوان تماما من مثل هذا النظام البديع.
وسيتبين من الشرح التالي كيف أن نظام الإرث في التوراة وكذلك في بعض الأنظمة الوضعية قد حرمت أقرب المقربين للمتوفي وهم أبوه وأمه وزوجته من الميراث بمجرد وجود ابن أو ابنه له ولم تراعي ما سيؤول إليه حالهم بعد وفاة من قد كان في الغالب يعيلهم.
لقد تحول كثير من عقلاء أهل الكتاب منذ فجر الإسلام وحتى يومنا هذا إلى دين الإسلام بسبب كمال النظام التشريعي فيه وعلى الخصوص نظام الإرث بعد أن تأكد لهم أن مثل هذا التشريع لا يمكن أن يسن من قبل رجل أمي.
بل مما زاد من دهشتهم وإعجابهم أن نظام الإرث هذا والذي تم فيه معالجة جميع الاحتمالات الممكنة لحالات الورثة من الدرجة الأولى قد تمت صياغته في عشرة أسطر فقط. إن مجرد استخدام الكسور كالنصف والثلث والربع والسدس والثمن في نظام الإرث في زمن يجهل فيه البشر وخاصة العرب منهم مثل هذه العمليات الحسابية لهو أكبر دليل على أن هذا النظام لا يمكن أن يكون قد تم وضعه من قبل رجل أمي.
لقد كان من السهل لو كان هذا النظام من وضع رجل أمي أن يقع في ورطة حسابية باستخدام نظام الكسور هذا ولكن الدارس المتفحص لنظام الإرث في القرآن يكتشف مدى الدقة التي تم بها اختيار حصص الورثة باستخدام الكسور.
ومما يؤكد هذا الأمر أننا نجد اليوم ونحن نعيش في القرن الواحد والعشرين بعض المتعلمين والذين درسوا الحساب لمدة طويلة في المدارس والجامعات لا يستطيعون التعامل مع نظام الكسور هذا.
وسنستعرض أولاً نظام الإرث المذكور في التوراة ونبين ما فيه من خلل ثم نشرح نظام الإرث المذكور في القرآن ونبين ما فيه من ميزات وأخيرا الاستشهاد بقول المفكر العظيم الشهيد سيد قطب في تعليقه على نظام الإرث في الإسلام وذلك في تفسيره القيم (في ظلال القرآن).
لا يوجد أي نص في أناجيل النصارى يتعلق بنظام الإرث ولذلك فقد اعتمد أهل الإنجيل في قوانين إرثهم على ما جاء في التوراة كما أمرهم عيسى عليه السلام بذلك.
وفي التوراة ورد نظام الإرث في سفر العدد حيث ذكر ما نصه:
1" فَتَقَدَّمَتْ بَنَاتُ صَلُفْحَادَ بْنِ حَافَرَ بْنِ جِلعَادَ بْنِ مَاكِيرَ بْنِ مَنَسَّى مِنْ عَشَائِرِ مَنَسَّى بْنِ يُوسُفَ. وَهَذِهِ أَسْمَاءُ بَنَاتِهِ: مَحْلةُ وَنُوعَةُ وَحُجْلةُ وَمِلكَةُ وَتِرْصَةُ. 2 وَوَقَفْنَ أَمَامَ مُوسَى وَأَلِعَازَارَ الكَاهِنِ وَأَمَامَ الرُّؤَسَاءِ وَكُلِّ الجَمَاعَةِ لدَى بَابِ خَيْمَةِ الاِجْتِمَاعِ قَائِلاتٍ: 3أَبُونَا مَاتَ فِي البَرِّيَّةِ وَلمْ يَكُنْ فِي القَوْمِ الذِينَ اجْتَمَعُوا عَلى الرَّبِّ فِي جَمَاعَةِ قُورَحَ بَل بِخَطِيَّتِهِ مَاتَ وَلمْ يَكُنْ لهُ بَنُونَ. 4 لِمَاذَا يُحْذَفُ اسْمُ أَبِينَا مِنْ بَيْنِ عَشِيرَتِهِ لأَنَّهُ ليْسَ لهُ ابْنٌ؟ أَعْطِنَا مُلكاً بَيْنَ أَعْمَامِنَا». 5 فَقَدَّمَ مُوسَى دَعْوَاهُنَّ أَمَامَ الرَّبِّ. 6 فَقَال الرَّبُّ لِمُوسَى: 7 «بِحَقٍّ تَكَلمَتْ بَنَاتُ صَلُفْحَادَ فَتُعْطِيهِنَّ مُلكَ نَصِيبٍ بَيْنَ أَعْمَامِهِنَّ وَتَنْقُلُ نَصِيبَ أَبِيهِنَّ إِليْهِنَّ. 8 وَتَقُول لِبَنِي إِسْرَائِيل: أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ وَليْسَ لهُ ابْنٌ تَنْقُلُونَ مُلكَهُ إِلى ابْنَتِهِ. 9 وَإِنْ لمْ تَكُنْ لهُ ابْنَةٌ تُعْطُوا مُلكَهُ لِإِخْوَتِهِ. 10 وَإِنْ لمْ يَكُنْ لهُ إِخْوَةٌ تُعْطُوا مُلكَهُ لأَعْمَامِهِ. 11 وَإِنْ لمْ يَكُنْ لأَبِيهِ إِخْوَةٌ تُعْطُوا مُلكَهُ لِنَسِيبِهِ الأَقْرَبِ إِليْهِ مِنْ عَشِيرَتِهِ فَيَرِثُهُ». فَصَارَتْ لِبَنِي إِسْرَائِيل فَرِيضَةَ قَضَاءٍ كَمَا أَمَرَ الرَّبُّ مُوسَى".
ومن الواضح من هذا النص أن نظام الإرث عند أهل الكتاب نظام بدائي لا يعالج كثير من قضايا الإرث فالشخص عندما يموت قد يترك وراءه زوجة وأبناء وبنات وأب وأم وأخوة وأخوات وأعمام وعمات أو ما وراء ذلك من أقارب ولا يبين هذا النص نصيب كل منهم. وفي نظام الإرث هذا فإن الميت ذكرا كان أم أنثى إذا ترك أولادا ذكورا فإنهم يستأثرون بكامل التركة يتقاسمونها بينهم ولا نصيب فيها لغيرهم من الورثة كأبيهم وأمهم وأخواتهم وزوجات أبيهم.
وفي غياب أبناء للميت فإن التركة تؤول لبناته أو بناتها يتقاسمنها بينهن ولا نصيب لغيرهن من الورثة مهما كانت درجة قرابته.
وفي حالة غياب البنات تنتقل التركة لإخوانه الذكور فقط ولم يبين النص كيف يتم تقسيم التركة في حالة غياب الأبناء والبنات مع وجود أب الميت وإخوانه.
وفي غياب الأخوة تنتقل التركة لأعمامه الذكور فقط ولم يبين النص كيف يتم تقسيم التركة في حالة غياب الأبناء والبنات مع وجود أب الميت وأعمامه.
إن أول المظلومين في نظام الإرث هذا هما الأب والأم فقد يكون ابنهما المتوفى هو العائل الوحيد لهما وقد يكونان كبيرين في السن وبموت هذا الابن تتوزع تركته ولا نصيب لهما فيه رغم ما بذلاه من جهد ومال في تنشئته حتى بلغ سن الرشد.
بل الأغرب من ذلك أن تركة المتوفى قد تذهب إلى أعمامه ولا ينال أبيه وأمه منها شيئا كما هو واضح من ظاهر النص والذي أعتقد جازما أنه نص محرف فالله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يظلم أحد في تشريعاته.
أما ثاني المظلومين فهي الزوجة فلا نصيب لها بتاتا في نظام الإرث هذا فربما كانت تعيش في رغد من العيش مع زوجها وبمجرد موته فإن مصيرها التشرد خاصة إذا لم يكن لها أبناء أو بنات وستموت قهرا وهي ترى أخوة زوجها أو أعمامه يتقاسمون تركته بينما لا تنال هي منها شيئا وقد تكون ساهمت بشكل مباشر أو غير مباشر في تحصيل هذا المال.
أما ثالث المظلومين فهن بنات وأخوات وعمات الميت فلا نصيب للبنات أبدا مع وجود الأبناء وكذلك الأخوات لا نصيب لهن مع وجود الإخوة والعمات لا نصيب لهن مع وجود الأعمام.
إن نظام الإرث المستخدم حاليا في الدول الغربية التي تدين بالمسيحية لا يختلف كثيرا عن النظام المذكور في التوراة فعلى سبيل المثال فإنه في قانون الإرث الفرنسي لا ترث الزوجة زوجها ولا يرث الزوج زوجته ولا يرث الأب والأم شيئا من تركة ابنهما بوجود أي ولد أو بنت له حيث يتقاسم الأبناء والبنات التركة بينهم للأنثى مثل حظ الذكر